موقع راديو و تلفزيون لوبه نت
اضف اهداء

تفاصيل تنشر لاول مرة عن رحيل الرئيس الراحل "ياسر عرفات" لطرابلس

تفاصيل تنشر لاول مرة عن رحيل الرئيس الراحل
2015-09-14 09:53:37
+ -


سوا فلسطين - عمان - كتب ‎محمود الناطور "أبو الطيب" مسؤول قوة 17 السابق / بعد أن أوصلت أبو عمار في ساعات الصباح الأولى إلى مقر إقامته في منطقة قرطاج في تونس قال لي: أغلق الباب، ثم اقترب مني وهمس في أذني "أنا مسافر بعد غد إلى قبرص ومنها إلى طرابلس، سوف تصل طائرة جزائرية بعد غد لتنقلنا إلى قبرص ومنها سوف نتوجه بحرا إلى طرابلس". قلت له إذا أجهز نفسي للسفر.. قال: لا عايزك أن تبقى هنا، وأن تذهب بسيارتك كالعادة من أجل التمويه، حاول قدر المستطاع أن تشعر الناس اني ما زلت موجود بتونس. قلت يا ختيار أنت ذاهب رأساً إلى طرابلس وأنت تعلم أنك سوف تكون محاصراً من الثلاث جهات، البحر من الإسرائيليين، ومن الشرق السوريين والجنوب من الانعزاليين، هذا بالإضافة إلى التنظيمات الفلسطينية المعادية التي تتبع الخط السوري والمنشقين عن فتح. قال إني أعلم كل هذا وأعرف أن مهمتي صعبة جداً، وأعرف أني سوف أكون محاصراً، لكن يجب أن تعرف أنني ذاهب فقط لأمنع الانهيار الذي بدأ في حركتنا بعد الانشقاق. فقط ابقى على اتصال معي باستمرار، وإذا احتجت لك سوف أرسل لك.. وادعي لنا.. اقترحت على أبي عمار أن يرافقه ثلاثة من قوات ال17 هم حسني سليم (أبو سليم) وجهاد الغول ونبيل حمدي، وأضاف هو مرافقه كاسترو ويوسف عبد الرحيم الملحق العسكري في الاتحاد السوفييتي.

كان أبو عمار قد اتخذ قرار التوجه إلى طرابلس وهو يعلم أن إسرائيل تريد تصفيته، وأن السلطات السورية لا ترغب بوجوده في تلك المنطقة، وأن طرابلس الشمال مطوقة من كل الجهات. كان قراراً خطيراً يشبه قرار الانتحار(1 ). إلا أنه كان واضحاً أنه يريد أن يقول للسلطات السورية أن لا أحد يستطيع الهيمنة على القرار الفلسطيني، وأن من انشق وانحاز لهم لا يمثل حركة فتح أو منظمة التحرير الفلسطينية وأنه مستعد للاستشهاد دفاعاً عن استقلالية القرار الفلسطيني.


لقد ضاقت الأرض على أبي عمار بما رحبت لكنه كان شديد الإيمان بالقضاء والقدر وبأن الله ينصر عباده المجاهدين وكان يردد الآية القرآنية: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل [آل عمران: 173].

كان أبو عمار يستحضر خلال تلك الفترة رموز الحركة الوطنية والعربية من القادة الشهداء الذين سقطوا في سبيل حرية واستقلال شعوبهم ومقاومة الاستعمار العسكري والاستيطاني للبلدان العربية وعلى وجه الخصوص في فلسطين حيث كان يستمد عزيمته في مواصلة مسيرته الكفاحية من إيمانه بتحرير القدس التي لا يعتبرها عاصمة لفلسطين فقط وإنما هي الهام مقدس لكل المؤمنين.

وعندما قرر التوجه إلى طرابلس كان يدرك حجم التضحية التي سيقدمها، لكنها تضحية سامية من أجل الوفاء لقافلة الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن الشرعية الفلسطينية في البقاع على أيدي المنشقين وحلفائهم من منظمات لم تعرف يوماً قيمة استقلالية القرار الوطني الفلسطيني، ومن أجل الوفاء لقافلة الشهداء الذين سبقوهم وسقطوا في معارك البطولة ضد قوات العدو الإسرائيلي.

اتخذ أبو عمار قرار العودة إلى طرابلس متحدياً كل المخاطر عن طيب خاطر، وعن قناعة أكيدة بأن النتيجة تستحق هذه التضحية كيف لا وهو عندما كان تحت القصف الإسرائيلي المتواصل في بيروت لاستهدافه لم يستكين وظل رأسه مرفوعاً وهو يردد شعار (هبت رياح الجنة).

لقد بدت قصة المجازفة التي أقدم عليها أبو عمار بالنزول إلى طرابلس سراً أشبه بالأفلام البوليسية، وقد لا يتخيل إنسان أن الرئيس اتخذ قراراً بالمجازفة كان من السهل أن يكون ضحيتها، ولكن هذه هي إحدى ميزات شخصية أبو عمار، فهو لا يأبه للمخاطر عندما يريد الوصول إلى هدفه، لكنه يعمل كل ما يمكن لتخفيف تلك المخاطر قدر الإمكان، ويحسب حساب كل صغيرة وكبيرة، ويضع أمامه كل العوامل المتغيرة التي يحتمل أن تفاجئه.

تم ترتيب رحلة أبو عمار في البداية دون استخدام الهاتف أو (المِثَالة=الفاكس) أو البريد تحاشياً لأي خطأ أو اختراق أمني وكانت المرة الأولى التي يتخلى فيها الرئيس عن بزته العسكرية ومسدسه والحطة الفلسطينية وكان سر الرحلة عند فتحي البحرية الذي سبقه إلى قبرص ولديه جميع التعليمات.

اتصل مكتب الرئيس في تونس صباح 16/9/1983م (قبل يومين من عيد الأضحى)بالسفير فؤاد البيطار سفير فلسطين في قبرص، هاتفياً. أبلغه أحد مساعدي الرئيس، أن مجموعة من أصدقاء الرئيس ستصل إلى لارنكا عن طريق الجزائر، وأن الرئيس يطلب منه الاهتمام بهم وترتيب وصولهم إلى طرابلس، لمقابلة خليل الوزير، الذي كان موجودا في طرابلس، أدرك السفير أن الأمر ليس توصية عادية بل أن مهمة هؤلاء الأصدقاء هي مهمة خاصة ولذلك قام السفير البيطار بالترتيبات اللازمة واستأجر زورقاً سريعا قادرا على قطع المسافة بين لارنكا وطرابلس خلال ثلاث ساعات.

تلقى السفير فؤاد البيطار اتصالاً هاتفياً من مكتب الرئيس للاستفسار عما إذا أجرى الترتيبات اللازمة لركاب الطائرة الخاصة التي ستصله غداً وعلى متنها رجال الأعمال أصدقاء الرئيس، وبعد ساعة من هذا الاتصال تلقى السفير اتصالاً آخر وكان المتحدث هذه المرة الرئيس نفسه وأكد للسفير ضرورة الاهتمام الشخصي بالأصدقاء المتوجهين إلى لارنكا، وأنه يعتمد عليه في ذلك لأنه سيتوجه إلى الجزائر ثم لليمن لقضاء العيد مع القوات الفلسطينية المتواجدة في هذين البلدين.

في اليوم المتفق عليه وصلت طائرة جزائرية وطلب أبو عمار من كل واحد من مرافقيه عدم اصطحاب أي سلاح إلى الطائرة، وعندما كانت الطائرة تحلق فوق الأجواء اليونانية سأل أبو عمار المضيفة وهي يونانية من أصل جزائري كم بقى من الوقت حتى نصل قبرص؟ وبعد أن أجابته نهض أبو عمار وقام بحلاقة ذقنه وتبديل ملابسه العسكرية بملابس مدنية ثم سأل المضيفة ثانية ما هي شروط دخول القادمين إلى قبرص؟ فأجابت المضيفة يجب أن يكون بحوزة كل شخص 1000 دولار عندها طلب أبو عمار من مرافقه كاسترو إحضار الشنطة التي تحوي الفلوس وقام بتوزيع مبلغ 1000 دولار لكل من المرافقين حتى يتمكنوا من الدخول إلى قبرص بسلام.

توجه السفير البيطار في الوقت المحدد إلى مطار لارنكا ليستقبل الوفد القادم على الطائرة الجزائرية، وعندما وصل صعد إلى الطائرة فوجئ بوجود أبي عمار على متن الطائرة وكان حليق الذقن إلا من شارب كثيف ويلبس ثياباً مدنية، اصطحبهم السفير إلى قاعة التشريفات وتسلم جوازات السفر وذهب لختمها بختم الدخول واصطحب الجميع بسرعة إلى منزله ليحصل أبو عمار على قسط من الراحة ثم الانطلاق إلى طرابلس. إلا أنه في اللحظة الأخيرة، حصل ما لم يكن متوقعاً فقد اعتذر صاحب الزورق السريع بأنه لن يتمكن من القيام بتلك الرحلة لأسباب طارئة، في تلك الأثناء وبعد وصولهم قبرص بقي المرافقون من قوات ال17 على اتصال معي حسب الشيفرة وأبلغوني أنهم لا يملكون أسلحة، استجابة لأمر أبو عمار عند الصعود إلى الطائرة بعدم أخذ أي سلاح، فأوعزت إلى أبو خالد الأبطح الذي كان يعمل مندوب الأمن بالسفارة فقام بتأمين خمسة مسدسات للمجموعة وتولى جهاد الغول إبلاغ أبو عمار بذلك فقال: حسناً فعلت.

أجرى السفير البيطار اتصالات لتأمين زورق آخر وتم ذلك ولكن الزورق هذه المرة كان زورقاً بطيئاً وستستغرق الرحلة تسع ساعات مما يعرضه لمخاطر أكثر بكثير من المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها الزورق السريع. فالساعات التسع ستضع الزورق تحت رحمة أية دورية خفر سواحل أو زوارق حربية إسرائيلية. لكن قرار الرئيس كان قاطعاً: على بركة الله، لنتوجه فوراً إلى الميناء حيث تم إيقاف السيارة قرب الميناء وهبط فؤاد البيطار ليكمل الاتفاق مع صاحب الزورق، وأعطى الرئيس صحيفة يونانية، وطلب منه تصفحها تمويها. وخلال دقائق تم كل شيء وكانت الساعة تشير للحادية عشرة والنصف صباحا عندما صعد الرئيس ومرافقوه للزورق. وأبحرت الباخرة الصغيرة نحو شواطئ لبنان. وعاد فؤاد للسفارة بعد أن ودع الرئيس دامعاً ووعد له بإبلاغه عند الوصول، واستدعى كل من أسهم في الترتيبات وطلب منهم الجلوس في مكتبه، وأبلغهم أنه سيغلق عليهم الباب، وسيقطع خطوط الهاتف عنه إلى أن يصل الرئيس، وبعدها سيكونون أحراراً. وقبل خروجه من المكتب نظر إليهم قائلاً: هذا الإجراء حماية لكم في حال حدوث أي خطأ.

زاد بطء القارب الرحلة رتابة فيما تنشد قلوب وأعصاب المجموعة نحو الوصول للشاطئ بأسرع وقت ممكن. وبعد مضي عدة ساعات أراد أبو عمار أن يصعد إلى سطح المركب ليرى شواطئ لبنان وفلسطين. حاول المرافقون ثنيه عن ذلك لكنه أصر. لاحظ القبطان أن شيئاً غريباً يكتنف هذه المجموعة. كان القبطان سوري الأصل من أرواد. وعندما صعد الرئيس لسطح الزورق عرف القبطان أنه يحمل في زورقه ياسر عرفات فهجم عليه معانقاً ويقول: يا رئيس أنت قائدنا ورمزنا، أنت أمانة في عنقي.

وعند الوصول للمياه الإقليمية اللبنانية أبلغ الرئيس أن القارب يحتاج لمياه عميقة للرسو، وأن الشاطئ القريب من نهر البارد ليس عميقاً. أعطى قبطان الباخرة إشارات لقوارب الصيد المنتشرة في تلك المياه فاقترب واحد منها واتفق على نقل المجموعة للشاطئ مقابل أجر كبير. وفي البداية تم إنزال نبيل حمدي والمرافق كاسترو ليستبقوا المجموعة لإبلاغ خليل الوزير ومنذر أبو غزالة، وخلال نقل المجموعة اضطر قارب الصيد أن يتوقف على بعد أمتار عديدة من الشاطئ وقام أحد المرافقين بحمل الرئيـس على كتفه وعبر بضع الأمتار المعدودة من البحر. كانت المياه تصل إلى وسطه، فتقدم حتى وصل الشاطئ وأنزل الرئيس من على كتفه ولحق الآخرون بهما أسرعوا نحو الشارع العام وأوقف أحد الأخوة سيارة أجرة وطلب من السائق أن يقلهم لمدخل المخيم انتبه السائق فراح ينظر عبر مرآة السيارة للراكب الذي جلس في الخلف يحيط به الشباب، ثم راح يصرخ فجأة: أبو عمار كلنا فداك صلاح الدين هنا.. صلاح الدين هنا، وأراد أن يوقف السيارة ليعانق الرئيس، لكن الرئيس طلب منه أن يواصل سيره بسرعة، وعند مدخل المخيم أوقف السائق السيارة وهرع نحو الباب الخلفي ليعانقه. وكانت الراحة تبدو على وجه الرئيس، وأعصابه هادئة، فسار يحث الخطى نحو مقر القيادة حيث كان خليل الوزير بانتظاره.

ويقول محسن إبراهيم الأمين العام للحركة الوطنية اللبنانية واصفاً تلك المرحلة: وصلت إلى باريس قادما من بيروت في 17/9/1983م، وكنت تواعدت مع أبو عمار على الهاتف وبصورة علنية على أن التقيه في تونس في 20/9/1983م، ولم أكن أعلم في حينه أن أبا عمار استخدم هذا الموعد المضروب علناً معي للقاء في تونس من أجل تغطية ذهابه إلى طرابلس. وما أن وصلت إلى باريس واتصلت بتونس سائلاً عن أبي عمار حتى أتاني الجواب "الختيار مشي" "مشي لوين.؟" قلت لمن أجابني، فأعطاني المتحدث رقم الهاتف طالباً مني الاتصال بـ"الختيار" عليه، وحين أمعنت النظر في الرقم وجدته في طرابلس لبنان، واتصلت بأبي عمار من باريس وقلت له: "أهكذا تخلف الموعد وأنا منذ سنة لم أرك وكنت أمني النفس بالاجتماع معك في تونس؟ فأجابني مازحاً: "وما له، تستطيع أن تأتي إلى هنا في طرابلس".

ثم ذهبت إلى دمشق في 25/9/1983م، وفور وصولي إلى مطار دمشق قال لي من استقبلوني من اللبنانيين أن الوقيعة وقعت بين القيادة السورية وأبو عمار وأن الأجواء بدأت تضيق، وقد جرى استدعاء هايل عبد الحميد "أبو الهول" وطلب إليه إغلاق مكتبه والامتناع عن أية نشاطات أو اتصالات(2) وكان جوابي لمحدثي في مطار دمشق آنذاك: "ما دام الأمر هكذا فإن هايل عبد الحميد سيكون أول شخص اتصل به في دمشق فور وصولي إلى الفندق، ومن فندق الشام اتصلت بأبي الهول وبعد نصف ساعة كنا مجتمعين في غرفتي في الفندق وشعرت بمدى التمزق والألم اللذين كان يعاني منه لإدراكه جسامة المخاطر القادمة.

ولم يكن هناك أي شك في أن التزام أبو الهول سيقوده إلى طرابلس، سيعود إلى خوض معركة الدفاع عن موقع الثورة الفلسطينية بخصائصه بميزاته وباستقلاليته ولكنه كان مهموماً جداً ورغبته حارقة جداً في أن يجري اجتناب هذه المحنة وناقشني طويلاً في ضرورة طرق كل الأبواب وسلوك كل السبل الممكنة من أجل تجنيب الساحة العربية مضاعفات هذا الصراع بين سوريا والثورة الفلسطينية.

وتواعدت معه على أن نبذل كل جهودنا، وقلت له بعد الفراغ من مقابلتي سنلتقي ونناقش وأعتقد بأننا جميعاً لن نترك وسيلة متاحة إلا ونستخدمها لمواجهة الخطر الزاحف، ولكنني اكتشفت بعد مقابلاتي للمسؤولين أن المواجهة في طرابلس أصبحت حتمية، وحين سألني أبو الهول عند لقاءنا مجدداً: "ماذا كانت حصيلة اتصالاتك" قلت له: "لن يغني حذر عن قدر" لأن الوضع كان قد تجاوز حدود الضبط وأذكر جيداً الآن تلك الأيام الحالكة التي عشناها مع الأخوة في دمشق، أبو الهول، أبو اللطف، أبو ماهر، وكان الجميع يحاول أن يدفع هذا الزلزال الزاحف على الساحة.

وبعد أن ودعت أبو الهول عائداً من دمشق إلى بيروت عن طريق أوروبا، وجدت أن وداعي له كان أقسى من وداعنا عند الخروج من بيروت. بعدها استمرت صلتي به ضمن إطار صلتي مع أبي عمار بطرابلس عبر الهاتف اليومي من بيروت، ثم كان ما كان من وقائع معركة طرابلس ونتائجها مما يستحق أن نفرد له مستقبلاً جهداً تاريخياً خاصاً.

قوات الـ17 في طرابلس:

بناء على قرار أبو عمار بدأنا بتحريك قواتنا من أماكن وجودها في الساحات الخارجية إلى طرابلس، حيث تم تحريك قوات وادي الزرقة – تونس، وكان تعداد الكتيبة 200 مقاتل، حيث بدأت بالتحرك على دفعات إلى قبرص ومن ثم إلى طرابلس، وكان على رأس هذه الكتيبة العقيد عبد الفتاح أبو عمشه (أبو صلاح) الذي يقول: حينما تم تجميع الكتيبة في طرابلس أوكلت مهمة توزيعها لغازي عطا الله (أبو هاجم) الذي قام بتوزيعها على ثلاث مواقع، الموقع الأول- بالقرب من جبل تربل والموقع الثاني كان شرق نهر البارد والموقع الثالث حول مخيم نهر البارد.

قمنا بإرسال قواتنا التي كانت موجودة في حمام الشط حيث كانت تعمل على حراسة السجن وتقوم بحراسة بعض المقرات وبعض القيادات، وكان تعدادها حوالي 76 مقاتل، وصلت هي الأخرى لطرابلس ووضعت تحت إمرة عبد المعطي السبعاوي. كما وصلت باقي قواتنا التي كانت موجودة في اليمن وكان على رأس هذه القوات كل من الرائد أبو عبد الله وأبو حسن الكمالي وأبو علي حسن.

كذلك وصلت آخر مجموعة من تونس وكانت بقيادة محمد درويش قنن "أبو النور" وكان يوجد معه مجموعة من الضباط على رأسهم النقيب رضوان الجاجة والنقيب أمين بسيسو والملازم أبو صالح الطوباسي والنقيب أبو حديد. ويقول خلدون حجو: ما إن وصلنا حتى قام فيصل أبو شرخ بإلحاقنا بالقوة المحمولة التي كان يقودها أبو عوض، وكانت هذه القوة مكلفة بحراسة الميناء، كذلك كانت تقوم بدوريات على طول الساحل وكان تسليح هذه القوة تسليحا جيدا مزودة برشاشات ثقيلة محمولة على السيارات، ووصلت إلينا صواريخ (لاو 60) ولم يكن يعرف عليها سوى العميد أبو خالد هاشم قائد وحدات الدفاع الجوي، وتم استدعائي وتم تدريبي على هذه الصواريخ وتم استدعاء ضباط من الـ17 وكان من بينهم علي شلبية. وبعد فترة قصيرة وصلت إلينا كمية من الألغام وتم استدعائي مرة أخرى وكان برفقتي النقيب نمر حيث قمنا بتوزيعها على المواقع، وهكذا بدأنا، بالإضافة إلى تخندقنا في مواقعنا والاشتباك المستمر مع المنشقين، فقد تم تكليفها بإحضار السلاح وتوزيعه على جميع القوات حسب قرار الأخ ياسر عرفات. كذلك أنشأ الأخ أبو الطيب محطتين، محطة في قبرص وكانت مهمة هذه المحطة استقبال القادمين من البحر والتأكد من سلامة الطريق، كذلك محطة ثانية في بيروت ضمن المطار حيث ما زالت هناك علاقة قوية للأخ أبو الطيب مع بعض الأصدقاء، وكانت تصلنا الإمدادات البشرية عن هذين الطريقين.

معركة طرابلس:

في تمام الساعة الخامسة والثلث من صباح يوم الخميس الموافق 3/11/1983م شنت قوات المنشقين هجوماً عنيفاً على مواقع قوات الشرعية الفلسطينية في الشمال باستخدام المدافع وراجمات الصواريخ والرشاشات الثقيلة، وردّت قوات الشرعية على النيران بالمثل من قواعدها في جبل تربل المواجه لزغرتا، وطالت قذائف المنشقين إذاعة "صوت الثورة الفلسطينية".

وكان هذا القصف العنيف تمهيداً لتقدم قوات المنشقين باتجاه المواقع لاحتلالها، وقد بدأ التقدم بالفعل تمام الساعة الثامنة صباحاً على ثلاثة محاور هي:

1- محور المحمرة – ببنين – العبدة باتجاه مخيم نهر البارد.

2- محور متقدم من جبل تربل الشمالي من مركز تجمع قوات أبو موسى بالاشتراك مع قوات حليفة له في بلدة عدوي باتجاه المنية لقطع الطريق بين مخيمي نهر البارد والبداوي.

3- محور من المراكز جنوب طريق طرابلس- سير وطريق القبة – زغرتا.

وتصدت قوات الشرعية لهجوم واستمر المنشقون في القصف المدفعي لمواقعنا حتى الساعة الرابعة والنصف من صباح 4/11/1983م وشمل المحمرة، ضهور ببنين، مركبتا وجبل تربل ثم امتد ليشمل منطقة المنية وليطال المناطق السكنية في طرابلس وتواصل القصف طيلة النهار والليل، وأهم ما ميز العمليات العسكرية في هذا اليوم الهجوم بالدبابات الذي استهدف قواتنا في الفوار وعلما وفي سفح جبل تربل وقد استشهد في المعارك سعد أبو القناني.

وقبل أن تبزغ شمس يوم السبت 5/11/1983م عاود المنشقون قصفهم العنيف المدفعي والصاروخي من المربض في الكورة وقرى جنوب طريق طرابلس – سير في محاولة للتقدم انطلاقا من بلدة عدوى باتجاه مركبتا والمنية لمنع طريق الإمدادات إلى مخيم البداوي وتشكيل "كماشة" على مخيم نهر البارد من ثلاثة اتجاهات للسيطرة على مواقع قوات الشرعية واحتلالها ثم التقدم نحو مخيم البداوي حيث يوجد مقر ياسر عرفات.

وتصدت قوات الشرعية لهجوم المنشقين حيث دارت معارك عنيفة بكل أنواع الأسلحة الثقيلة، ومن خندق إلى خندق بالسلاح الأبيض خصوصاً في منطقتي الفوار وعلما وحول المحمرة – ببنين – العبده في مواجهة مخيم نهر البارد، وظلت هذه القوات مسيطرة على الوضع تماماً حتى الساعة الثامنة مساءً حيث أمكن التوصل إلى اتفاق على وقف إطلاق النار بناءً على دعوة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لكن قوات المنشقين سرعان ما اخترقت الاتفاق صباح يوم الأحد 6/11/1983م وشنت هجوم على قوات الشرعية تمام الساعة السادسة صباحاً تركز بشكل عنيف على محور المحمرة – مخيم نهر البارد – المنية – النبي يوشع – دير عمار – حريقص – برج اليهودية، ثم بدأت قوات المنشقين بالتقدم على ثلاثة محاور هي:

1- محور مخيم نهر البارد من بلدة المحمرة واستطاعت الوصول إلى المخيم في تمام الساعة الخامسة والربع بعد العصر.

2- محور المنية – النبي يوشع – دير عمار وتمكن المنشقون من تحقيق اختراق على هذا المحور.

3- محور حريقص – برج اليهودية – دير عمار، وأقام المنشقون حاجز على مثلث دير عمار.

ورغم ادعاء المنشقين أنهم سيطروا على مخيم نهر البارد إلا أن قوات الشرعية واصلت شن هجمات مرتدة على قوات المنشقين وألحقت بها خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات، وفي مساء هذا اليوم غادر أبو عمار مركز القيادة في مخيم البداوي وتوجه إلى مقر القيادة في حي الزاهرية في طرابلس. وبعد أن استجمع المنشقون فلولهم عاودوا صباح يوم الإثنين 7/11/1983م القصف المدفعي والصاروخي العنيف وأمطروا مواقعنا المتقدمة بأطنان من الحمم، ودارت مواجهات شرسة بين مواقع الفوار والعيرونية وتلال مخيم البداوي استمرت إلى اليوم التالي.

وفي تمام العاشرة من صباح الثلاثاء 8/11/1983م شنت قوات الشرعية هجوماً معاكساً على قوات المنشقين وردتهم من محاور طريق سير – الفوار وطريق القبه – مجدليا عبر منطقة المساكن الشعبية ومن قمة جبل تربل باتجاه بلاط علما والكسارات، وتمكنت قواتنا من عزل مواقع المنشقين، ورد المنشقون بقصف مدفعي استمر (5 ساعات). في حين كان أبو عمار يتفقد أحياء طرابلس القديمة ومواقع القوات هناك استعداداً لمواصلة ودعم الهجوم المضاد على قوات المنشقين.

وفي 9/11/1983م عقد اجتماع في دار البلدية بطرابلس حضره أبو عمار وأمير حركة التوحيد الإسلامي الشيخ سعيد شعبان ورئيس بلديتي طرابلس والمينا عشير الدايه وعبد القادر علم الدين وأمين التجمع الوطني النقيب عدنان الجسر قائد جيش لبنان العربي ومندوبون عن بعض الأحزاب والأندية والنقابات بالإضافة إلى رجلي الأعمال طارق فخر الدين وواصف الفتال، وانتهى الاجتماع بالاتفاق على وقف إطلاق النار فوراً على أن يكون شاملاً لكافة المواقع القتالية وفي ذات الوقت كان الرئيس كرامي يجري اتصالاته في دمشق لتعزيز وقف إطلاق النار لا سيما بعد أن طلب من شقيقيه معن وعمر إبلاغ عرفات ضرورة سحب الأسلحة الثقيلة والمسلحين من طرابلس ولم يشهد هذا اليوم سوى اشتباكات متقطعة.

واصلت قوات المنشقين يوم 10/11/1983م الهجمات منذ الخامسة فجراً في مناطق الفوار والعيرونية وبجوار المستشفى الحكومي وثكنة الجيش في القبه ومنطقة المنكوبين وتلال مخيم البداوي المشرفة على مصفاة النفط وتعمد المنشقون قصف مناطق داخل طرابلس حيث أصيبت أحياء القبة والميناء والتبانة والزاهرية والملولة وبعل حسن والسقي. ورغم هذا الخرق الواضح لقرار وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه يوم 9/11 إلا أن أبا عمار وأبا جهاد أعلنا التقيد بالاتفاق بصورة منفردة، وأن المطلوب هو أن تتقيد به قوات المنشقين.

لذلك توجه وفد يمثل الهيئات الطرابلسية والتقى مع أحمد جبريل والعقيد أبو موسى في جبل تربل وحصل الوفد على وعد بالالتزام بعدم اختراق قرار وقف النار، إلا أن هذا الوعد لم يصمد طويلاً حيث عاود المنشقون وحلفائهم يوم 11/11/1983م قصف مخيم البداوي ومنطقة التبانه ومحلة سوق الخضار الجديد قرب المستوصف الشعبي الأمر الذي عرقل جهود الفنيين لإصلاح أعطال الكهرباء في الزاهرية والتبانة وبعل محسن والقبه التي تعطلت من خمسة أيام سابقة لتضيف معاناة جديدة للسكان بعد أن انقطعت عنهم المياه أيضا.

في 12/11/1983 بدأت معركة سياسية جديدة إلى جانب المعارك العسكرية حيث المطالبات بخروج أبو عمار من طرابلس وعودته إلى مقره في تونس، وكان رشيد كرامي قد بدأ هذه المعركة السياسية من دمشق فرد عليه الشيخ سعيد شعبان بالقول: "أنه ليس من حق كرامي أن يطلب خروج عرفات من طرابلس، وعبر عن وقوفه الكامل إلى جانب الشرعية الفلسطينية".

صمد وقف إطلاق النار يوم 13/11/1983م لكن وفد من قيادات المنشقين وحلفائهم تفقد مواقع المنشقين حول مخيم البداوي وأطراف مدينة طرابلس، وضم الوفد أبو خالد العملة، وأبو اكرم، وأحمد جبريل، والدكتور سمير غوشة، وزياد الصغير "أبو حازم" الذي تبجح بأن قواته قد أحكمت الطوق حول مخيم البداوي، ولم تدخله حتى الآن بهدف تحييد مدينة طرابلس. وخلال الجولة عقد الوفد اجتماعاً مع قادة المنشقين في المنطقة وهم من أعضاء المجلس العسكري العقيد أبو مجدي والمقدم زياد الصغير وأبو حديد وأبو زهرة والشيخ علي وعدد آخر من الضباط. وصدر بيان إدعى فيه هؤلاء تمسكهم بوقف إطلاق النار، وفي المقابل قام أبو عمار بتفقد مخيم البداوي ومواقع قواتنا هناك واجتمع إلى الضباط والمقاتلين، فيما تفقد هايل عبد الحميد الجرحى في المستشفيات.

استأنف المنشقون هجومهم يوم الثلاثاء 15/11/1983م في محيط مخيم البداوي ومدينة طرابلس واستمر (12 ساعة) متتالية حيث تحول محيط مخيم البداوي وأحياء عدة في طرابلس إلى جحيم، وكان الهدف هو "إسقاط مخيم البداوي" واستمر القتال حتى صباح يوم الأربعاء 16/11/1983م بقصف عنيف لمواقع قوات الشرعية التي تمكنت من السيطرة على الموقف ورد الهجوم ودمرت (15 دبابة) وأسرت (ستين مقاتلاً من المنشقين) كما دحرت قوات الشرعية هجوماً آخر للمنشقين من جهة المصفاة. وخاضت قوات الـ17 معركة شرسة عندما تمكنت قوات المنشقين من الوصول إلى اطراف ملعب الكره، ودارت مواجهة عنيفة انتهت بردهم إلى مخفر الدعتور وانتهى قتال هذا اليوم بسيطرة قوات أحمد جبريل على مخيم البداوي وقام جبريل بتفقد المخيم وعقد مؤتمراً صحفياً(3).

وفي صباح 17/11/1983م تركز قصف المنشقين لمنطقة الزاهرية حيث مقر أبو عمار وشمل مختلف مناطق طرابلس وظهر أبو عمار صباح 18/11/1983م في مؤتمر صحفي أعلن فيه أن المنشقين باتوا يسيطرون على معظم أنحاء مخيم البداوي وأن هذا المخيم لن يكون قلعته الأخيرة وأنه لا أحد يستطيع تصفية منظمة التحرير الفلسطينية وأوضح أن لواءين سوريين وكتيبة ليبية شاركت في دعم وإسناد الهجوم على مخيم البداوي، وأهم ما ميز هذا اليوم بعد سقوط مخيم البداوي هو (إبعاد) العقيد سعيد مراغه (أبو موسى) عن الواجهة ليظهر بدلاً منه أحمد جبريل الذي هدد باجتياح طرابلس في الوقت الذي دعا فيه الملك السعودي فهد بن عبد العزيز إلى وقف سفك الدماء والاحتكام إلى العقل والحوار وتوجيه القوة الفلسطينية إلى إسرائيل لتحرير الأراضي العربية المحتلة، وفي ذات اليوم طلب أبو عمار في زيارته لمواقع ال17 وغيرها أن يجهزوا أنفسهم للهجوم المعاكس لاستعادة المخيم وقال للجميع أنه سوف يصلي معهم الفجر في المخيم وأضاف أريد مقاتلين يذهبون برغبتهم فصاح الجميع نحن معك يا أبا عمار وقد شارك الجميع من قوات ال17 في هذه المعركة التي يتذكرها جزار الغول قائلاً: "لقد كان القتال شرساً ومريراً من شارع لشارع ومن منزل لمنزل لا تعرف هل القذيفة منك أو عليك والجميع يطلق النار والقذائف تتناثر بعيدة وقريبة وقد بترت يد محمد العزة وكان بجواري فقمت بإحضارها ونقلته إلى مكان آمن وكذلك أصيب الرائد كمال مدحت بجوار مبنى الهلال الأحمر ونجحنا في تحرير البداوي ويضيف بانفعال شديد: "أنه وقف يؤذن ويكبر في المسجد لأول مرة في حياته".

وجاء صباح 19/11/1983م لتتمكن قوات الشرعية من إبعاد قوات المنشقين عن طرابلس ورد المنشقون بقصف المدينة بشكل عنيف لـ10 ساعات متواصلة، فيما صرح أبو عمار أنه سيقاتل حتى النهاية وأن ليس أمامه من خيار سوى الاستمرار، في ذات الوقت جدد رشيد كرامي الدعوة إلى ضرورة مغادرة أبو عمار، وشجع هذا التصريح سوريا والمنشقين صباح 20/11/1983م على "إحراق طرابلس" لإجبار أهلها على المطالبة بخروج عرفات وبدأ قصف عنيف للمدينة حيث أحرقت القذائف المرفأ وستة بواخر وعدد من سيارات الإطفاء وتم تدمير المصفاة كما تمكن المنشقون من استعادة السيطرة على مخيم البداوي واستمر القصف حتى اليوم التالي 21/11/1983م ليستهدف مقر الرئيس في الزاهرية وصاحبه تقدم للمنشقين صرح الرئيس عرفات أثناءه أن القوات السورية والليبية تشارك في القتال، وامتدت ساعات القتال حتى صباح يوم الثلاثاء 22/11/1983م حيث دارت معارك عنيفة عند مداخل طرابلس.

رحيل عرفات عن طرابلس بقرار عربي:

في إطار التحرك العربي لإيجاد حل بعد أن أجرى وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل في دمشق مباحثات مع وزير الخارجية السوري عبد الحليم خدام، واتضحت ملامح هذا الحل يوم الأربعاء 23/11/1983م حين أشار عضو اللجنة المركزية لحركة فتح وممثلها في السعودية رفيق النتشة إلى أن اللجنة المركزية لفتح وافقت في اجتماع عقدته في تونس على:

1- الحفاظ على طرابلس بإنهاء المعارك وخروج المقاتلين من المدينة وضواحيها.

2- الحفاظ على وحدة منظمة التحرير الفلسطينية بإنهاء النزاع المسلح داخلها وبدء حوار سياسي(4).

وفي 26/11/1983م جرت مباحثات بين مختلف الأطراف اللبنانية في طرابلس من أجل ترجمة الاتفاق السعودي – السوري، وفي هذا اليوم صدر عن مجلس الأمن الدولي القرار (542) الخاص بوقف إطلاق النار في طرابلس، وهو القرار الذي جعل مطلب القوى والأحزاب الطرابلسية بخروج الرئيس عرفات مطلباً جماعياً كان من المفروض أن يغادر بتاريخ 14/12/1983م، قبل هذا التاريخ بيوم كان أبو عمار قد اتفق مع الحركة الوطنية بأن تأتي إلى ميناء طرابلس الساعة الخامسة والنصف لوداعه كما تم تحضير القوات المرافقة لكي تكون جاهزة بنفس الموعد للركوب بالبواخر، كان يجلس في مكتب الزاهرية حيث ابلغ سفيرنا بقبرص الأخ فؤاد البيطار بان تتحرك البواخر لنقلنا صباحا..

الساعة الحادية عشر ونصف من تلك الليلة توجه مع الأخ فيصل أبو شرخ لمنزله بشارع عزمي.. حيث قام بتغيير ملابسه واخذ حمام وقام بالصلاة وهو راكع.. سمعنا صوت طيران إسرائيلي يحوم فوق مدينة طرابلس لمدة ثلث ساعة.. وما ان انهى ابو عمار الصلاة حتى قام ولبس ملابسه العسكرية .. سأله فيصل أين تريد ان تذهب يا ختيار والحركة الوطنية على موعد معك بات تأتي الساعة الخامسة والنصف لوداعك .. قال أبو عمار لفيصل رجعني على مكتب الزاهرية.. وفعلا استقلينا السيارات ووصلنا المكتب.. وحين دخولنا المكتب قال فؤاد على سماعة التلفون وإذ به يخبره بان يعيد البواخر إلى قبرص.. هنا جن جنون فؤاد واخبره يا سيدي البواخر تحركت وأصبحت خارج المياه الإقليمية لقبرص.. أجابه بالأمر يجب ان تعود وتستطيع الاستعانة بقائد القوات البحرية الإنجليزية في قبرص.. وبعد إتمام المكالمة الهاتفية مع فؤاد البيطار عدنا إلى المنزل.. وقمنا بإبلاغ القوات بتأجيل الخروج كما ابلغنا الحركة الوطنية التي كانت تستعد لوداعه الساعة الخامسة والنصف بان الرحيل قد تأجل وفعلا الساعة السابعة صباحا موعد أبو عمار ومن معه بركوب البواخر وفي نفس الموقع المفروض ان ترسو به السفن بدأت انفجارات الألغام البحرية والتي كانت تغطي منطقة رسوا السفن وبعد هذه الحادثة غير أبو عمار اتفاقية الخروج، حيث طلب ان تكون الحماية الفرنسية من نفس الميناء وليس كما كان سابقا ان تكون الحماية على بعد 6 ميل من الميناء وفعلا تم ما طلبه أبو عمار بتقدم الحماية الفرنسية إلى الميناء، وكان حس أبو عمار الأمني انقذ جميع قيادتنا وقواتنا وكثير هذه الأحداث المماثلة لهذه الحالة ، كان أبو عمار سباق في إنقاذنا اكثر من مرة.

تأجل الرحيل لمدة أسبوع وفي يوم الأربعاء 21/12/1983م تحقق الرحيل برحيل القائد أبو عمار وبرفقته المقاتلون.

لتبدأ حلقة جديدة من حلقات التهجير التي عاشها الفلسطينيون، كان يوماً طويلاً، حافلاً وحزيناً، حملوا متاعهم- كل ما تبقى لهم- وأسلحتهم وأعلاماً فلسطينية رحلوا ومعهم ياسر عرفات وخليل الوزير ومسؤولون أمنيون وعسكريون وآلاف المقاتلين.

بدأ "أبو عمار" يتابع السفن وموعد وصولها منذ الساعة السادسة صباحاً، وكان في مركز الاتصالات في بناية عودة، وكان حوله "أبو جهاد" وزوجته وعدد من المقربين، بدأ حزيناً جداً وهو يتحدث عن الرحيل، دمعت عيناه مراراً وهو يقول: "كل الذي حصل في بيروت والمنطقة لم يؤثر بي مثل الذي حصل هنا في طرابلس، شيء مؤسف جدا". وبعد قليل شعر بالجوع فقال: جاي على بالي كنافة بالقشطة والعسل من طرابلس". وأسرع أحد الموجودين يحضر كعكات الكنافة، ليتناولها أبو عمار مع رفاقه وهو يتابع الاتصالات. وخلال وجوده في غرفة الاتصالات حلقت طائرتان فوق طرابلس وسمعت قذائف المضاد، وبعد اتصالات تبين أنها فرنسية.

خرج أبو عمار من المبنى قرابة الساعة الثامنة، و كان ينتظر أمامه عشرات المصورين والصحافيين الأجانب، تحدث إليهم بالإنكليزية مخترقا حشودهم يردد: "إن شاء الله خير، كل شيء خير، إن شاء الله نلتقي في القدس، جميعاً.. جميعاً". ورفع علامة النصر، وتابع طريقه في موكب من السيارات في جولة على تجمعات مقاتليه في الزهرية ومستديرة عزمي والفرير ومدرسة النصر ومدرسة الأمريكان، وفي مقره العسكري تلقى اتصالات هاتفية من مسؤولين عرب وأجانب.

تجمعات الفلسطينيين بدأت منذ الثالثة فجرا، توزعوا حسب المناطق التي أتوا منها، وفي يد كل منهم بطاقة عليها رقمه واسم الباخرة التي سيعتليها. ومع خيوط النهار الأولى، غصت شوارع طرابلس بالراحلين والمودعين، حقائب وأكياس وصناديق وعائلات هنا وهناك، بعضها مسافر وبعضها سيتشتت شمله. انشغل الجميع بتوضيب الأغراض وتعداد الأفراد والعائلات، وكثيرون تناولوا ترويقة مستعجلة من بائعين متجولين: الكعك والمناقيش والكنافة وغيرها، وكذلك ارتشفوا القهوة على الأرصفة وجوانب الطرق، شاركهم فيها طرابلسيون كثر جاؤوا يودعون من تعايشوا وإياهم فترة طويلة وعرفوا معهم "الحلو والمر". مراد عبد الرؤوف المصور الشخصي لياسر عرفات (المصري الجنسية) كان يتنقل بين الجميع، بكى وهو يتحدث إلى جريدة "النهار" اللبنانية قائلاً تعز علي الأراضي اللبنانية والشعب اللبناني، اليوم أنا حزين جدا لأني خارج بقرار عربي. وعن أصعب مرحلة عاشها مع "أبو عمار" قال إنها كانت في طرابلس، "في حربنا مع إسرائيل لم نكن خائفين، إنما في طرابلس كان يصعب على "أبو عمار" إعطاء الأوامر بإطلاق النار".

الدكتور علي محمد عابد تواجد بين الجموع أيضاً، وهو طبيب المنظمة منذ العام 1971م قال هاجرت كثيراً، لكن هذا اليوم هو أصعب يوم في حياتي، وأنا لا أستطيع أن أصف شعوري، أنه أصعب من مأساة 1948م، في طرابلس عالجت جرحى كثيرين ورأيت قتلى، وأكثر ما كان يمزقني ويؤلمني من الداخل هو أن القتلى والجرحى لم يسقطوا على يد عدو بل على يد صديق". كثيرون من المغادرين تحدثوا عن حزنهم للرحيل وحبهم للبنان وتمنياتهم له أن يتجاوز محنته ويعود سليماً معافى.

وفي المرفأ بدأ انتظار الصحافيين والمسؤولين الأمنيين عن البواخر اليونانية الخمس التي كانت أقلعت ليل الاثنين من ميناء لارنكا. وفي مركز إرشاد السفن رابط منذ السادسة صباحاً السفير اليوناني والملحق العسكري الفرنسي للتأكد من مسار السفن اليونانية وحاملة الطائرات الفرنسية "كليمنصو" ضامنة سلامة الرحلة، وكان الاثنان في اتصال دائم مع عرفات، وكان في مركز إرشاد السفن قائد سرية درك الشمال ومدير مرفأ طرابلس. التاسعة والنصف أطلت أول باخرة في حوض المرفأ وهي زرقاء اسمها "ايونيان غلوري" بعد ربع ساعة أطلت الباخرة الثانية وهي برتقالية اسمها "ناكسوس"، ثم باخرة ثالثة بيضاء هي "سانتوريني"، ومثلها رابعة اسمها "اوديسياس اليتيس"، وخامسة رمادية اسمها "فرجينيا"، وبذلك اكتمل عقد البواخر الخمس في الحوض الكبير، ولبصت بالطول والعرض وفتحت أبوابها في انتظار المقاتلين.

حضر أبو جهاد ليتأكد من وصول البواخر، فتحلق حوله الصحافيون الأجانب وسألوه عن السلاح الثقيل فأجاب: "لدينا بعض السلاح الثقيل، ونريد أن نسلمه إلى الجيش اللبناني". وسأله مراسل ياباني: "كيف يشعر رئيس المنظمة حيال ما حصل"؟ أجاب: "نحن ثورة فلسطينية" وأمامنا مرحلة طويلة من الصراع قبل أن تصل إلى الشاطئ عبر العودة إلى فلسطين علينا أن نواجه مصاعب كثيرة ونواجه هموماً كثيرة، إن صراعنا سياسي وصراعنا عسكري المشكلة التي واجهناها هنا سببها أننا من دون وطن، عندما يعود إلينا وطننا تحل كل المشاكل، سنواصل كفاحنا العسكري وكفاحنا السياسي وهذه طريقنا، نحن ثورة وإذا خسرنا معركة لا يعني ذلك أننا خسرنا الحرب" أمامنا طريق وحيد هو الكفاح.

وتحدث إلى صحافيين لبنانيين قال: نحن لا ننسى شعب لبنان العظيم الذي أعطى الكثير مع الشعب الفلسطيني، ومن أجل ثورته، وهذه الدماء الزكية التي سالت واختلطت على الأرض اللبنانية لا ينساها الشعب الفلسطيني لذلك نحن نغادر وفي قلوبنا الوفاء والمحبة والاعتزاز والاحترام لنضال هذا الشعب، وتبقى المعركة مستمرة حتى تتحرر الأرض اللبنانية من العدو الصهيوني الذي احتل جزءاً من أرضه، وهذا الشعب له الآن قضية مع العدو الإسرائيلي.

ابتداء من العاشرة بدأت شاحنات الجيش اللبناني تصل ناقلة المقاتلين الفلسطينيين الذين رفعوا صور ياسر عرفات وأعلاماً فلسطينية، وبدأ هجوم السيارات والناقلات وآلاف من المشاة غصت بهم الأرصفة. شاحنات تحمل حقائب كانت تدخل البواخر أولا وتفرغ حمولتها وتذهب لتعود محملة بغيرها، كثيرون جروا أمتعتهم، نساء فلسطينيات حملن أطفالهن ورافقن رجالهن في الرحيل، سيارة نقل "بيك اب" أفرغت في إحدى السفن حمولتها من علب حلويات الجلاب الطرابلسية.

كان الرحيل من مرفأ طرابلس مهرجاناً شعبياً لم يعرف مثله الفلسطينيون في مرفأ بيروت حيث كانوا وحدهم وحولهم بنادق الإسرائيليين، أما في طرابلس فالبنادق التي أخرجتهم كانت بعيدة جدا، ولم يحرموا من الوداع الجماهيري الذي سيبقى عالقا في أذهانهم إلى الأبد. وبين الجموع كانت تنتقل سيارات "حركة التوحيد الإسلامية" والجماعة الإسلامية ذهاباً وإياباً في حركات عسكرية استعراضية مودعة رفاق الخندق الواحد ووقت صلاة الظهر نزل عناصر "التوحيد" وصلوا إلى جانب الرصيف. وتواصل نقل المقاتلين في الشاحنات الضخمة التي وضعها الجيش اللبناني في تصرفهم، ومعهم كانت تصل سيارات عسكرية صغيرة وسيارات إسعاف وسيارات مدنية خاصة تدخل حظائر البواخر وتستقر فيها.

السفير اليوناني ايفانجيلوس جورجيو حضر إلى المرفأ مع قنصل اليونان في طرابلس أرسطو كاركاس وصعداً إلى البواخر للاطمئنان إلى مسار الرحيل وقبل أن يغادر السفير المرفأ قال أنه مطمئن إلى عملية الترحيل، وكل شيء يسير على ما يرام.

حضر الناطق الرسمي باسم أبي عمار الأخ أحمد عبد الرحمن إلى المرفأ وسألته "النهار" هل سيكون لكم مكتب عسكري أو سياسي رمزي في طرابلس..؟ أجاب: لا، سوريا رفضت ذلك، رفضت أن يكون هناك أي مكتب لحركة فتح و(م.ت.ف)، هذا يوم حزين في تاريخ شعبنا، ليس فقط إسرائيل تفرض خروج الفلسطينيين وتهجيرهم إنها أيضا الأنظمة العربية.

قوافل الواصلين إلى المرفأ بدا أن لا نهاية لها، كانوا يصلون بالسلاح الكامل وبالصواريخ المحمولة والمفككة.. وقرابة الثانية بدأ إطلاق الرصاص الوداعي فاشتعل الميناء بالرشقات من كل صوب، ولم تتوقف حتى الثالثة والنصف عندما بدأ تحرك البواخر للرحيل. في الثالثة والثلث وصل موكب الرئيس عرفات إلى المرفأ ومع وصوله انطلقت المدفعية بالقذائف الوداعية. اخترقت سيارة عرفات حشود الجماهير وصولا إلى الباخرة الرابعة اوديسياس ودخلت به السيارة إلى قلب الباخرة ولم يتوقف ليتحدث مع أحد وتحاشى المصورين فلم يوفقوا بصورة له وهو يدخل الباخرة، وكان آخر المغادرين.

في الثالثة والنصف أغلقت البواخر أبوابها وبدأت تحركها خارج الحوض في اتجاه "المجهول" طبقا لقول القائد أبو عمار لأحد الصحفيين عندما سأله قائلاً: عندما خرجت من بيروت قلت أنكم ذاهبون إلى النفق المظلم واليوم أين أنتم ذاهبون فرد أبو عمار نحن ذاهبون في اتجاه "المجهول"؟

انكشاف المؤامرة:

منذ أن أصبح الانشقاق عن الإطار الشرعي أمراً محسوماً مسبقاً وحقيقة واقعة لامحالة بدليل تسارع أحداثه ورفض قياداته لتسوية الخلاف داخل التنظيم وما تبع ذلك من السيطرة على مقرات حركة فتح ومنظمة التحرير في دمشق واعتقال من ظل على تأييده للشرعية، أصبح جلياً أن المقصود من هذه الدعوات هو الانشقاق نفسه بعيداً عن ادعاءات الإصلاح والتصحيح، وسرعان ما فقد الشعار جاذبيته بوتيرة أسرع مما توقعوه حين اصطدم الشعار مع الممارسات والمسلكية اللاثورية والانتهازية والإفصاح عن تبعيته لهذا النظام بعيداً عن طرح فتح وأدبياتها التي حافظت على استقلالية القرار الوطني الفلسطيني بعيداً عن التدخلات الخارجية وهو ما انعكس على قدرة قادة الانشقاق على إنجاح حركتهم ليس فقط في السيطرة على قرار حركة فتح وإنما أيضا في إيجاد ساحات حركية في الكثير من البلدان.

وعلى الرغم من الدعم الكبير الذي حظى به قادة الانشقاق من النظام السوري والنظام الليبي سعيا لأهداف إقليمية وجدت أنصارا في صفوف حركة فتح طمعا في تحقيق أهداف ومكاسب شخصية إلا أن هذه المؤامرة سرعان ما انتهت خاصة في ظل حقائق الأمر الواقع وانكشاف أكاذيب الشعارات التي رفعها قادة الانشقاق والصراعات الداخلية التي مزقت مشروعهم التآمري الذي أضر حقيقة بالمشروع الوطني الفلسطيني في مرحلة غاية في الخطورة.

حاول المنشقون الترويج لادعاءات كاذبة أن مشروعهم جاء بهدف تصحيح مسار الثورة الفلسطينية التي حرفتها القيادة عن مسارها وعدم تمسك تلك القيادة بالثوابت الوطنية الفلسطينية وهو الادعاء الذي تدحضه الحقائق الآتية:

إن تعديل الميثاق القومي إلى الوطني جرى قبل تاريخ الانشقاق بفترة طويلة سنة 1968م وأن برنامج الدولة المرحلية (إقامة سلطة على ما يتحرر من الأرض) أو برنامج النقاط العشر هو الآخر سابق لتاريخ المنشقين وجرى في العام 1972م، وأن انشقاق 1974م آنذاك قد افتعله صبري البنا "أبو نضال" ورفع فيه شعارات الانشقاق التالي، لم تؤيده تلك القيادات المنشقة وأن مؤتمرا حركيا عاما هو الرابع في دمشق عام 1980م كان قد جرى وأكدت قراراته على البرنامج المرحلي ولم يعترض عليها أولئك المنشقون، وأن موقف قيادات الانشقاق كان ملتزما طوال تلك الفترة بقرارات الشرعية.

1) الموقف الرسمي السوري (بصفته المرجعية السياسية للانشقاق) لم يتحدث يوما عن رفضه للبرنامج المرحلي أو للتعاطي مع أي تسوية سلمية مع العدو، بل كان الموقف هو ما صرح به الراحل الرئيس الأسد لأنور السادات في آخر زيارة له إلى دمشق قبل زيارته إلى القدس بقوله: سياستنا واحدة وتكتيكنا مختلفة ويؤكده مواقف النظام من التعاطي لاحقاً مع مدريد وتأكيده على مرجعيتها ورفضه للطلب الفلسطيني بعدم التوقيع على معاهدات سلام قبل انتهاء مفاوضات الحل النهائي في الجانب الفلسطيني الإسرائيلي بقوله أنه لن ينتظر ذلك إذا توصل إلى اتفاق (كاد أن يصله مع رئيس وزراء إسرائيل السابق يهود باراك في بداية عهده خلال مفاوضات شيبردز تاون فرجينيا 3 إلى 10 يناير 2000 لولا تنصل باراك مما عرف بوديعة رابين التي يطالب السوريون بها).

2) يعترف إلياس شوفاني في كتابه "بوح في المتاح" وهو حوار أجراه مصطفى الولي وعبده الأسدي وصدر في دمشق دار كنعان، العام 2001 وفي الصفحة 105 (إن بعض ممن كان يسمى معارضاً ومنهم من انضم إلى قيادة (الانتفاضة !!) لاحقا كانوا مع البرنامج المرحلي).

3) الادعاء بالتمسك بثوابت حركة فتح: يبطله حقيقة ممارساتهم التي ظلت تراوح في رفع الثوابت كشعارات عدمية دون ترجمة ذلك على أرض الواقع، فثابت العودة هو من الثوابت التي تصر عليها الشرعية، وهذا ما يبطل مسوغ الحاجة إلى الانشقاق. وأما ثابت تحرير كل فلسطين، فيبقى شعارا ومسوغا باطلا للانشقاق، إذ أن فتح الشرعية لم تسقطه استراتيجياً ولم تسقطه من أدبياتها، وأن التعامل السياسي في أي مرحلة كان ينسجم مع حقيقة مرحلية التحرير بأساليب عملاتية واقعية ذات فعل مؤثر على الواقع السياسي والجغرافي (بعيدا عن البقاء في أسر الشعار الاستراتيجي والاكتفاء بترديده دون استحقاقات مواجهة الواقع وضروراته) أخذت شرعية التصديق عليها عبر المؤسسات التنظيمية والوطنية، و رفع هذه الاستراتيجية فيها تشكيك في نوايا أبناء فتح الشرعية لأن كل أبناء فتح الشرعية مع هذه الاستراتيجية، وهم في اتباعهم لأساليب المرحلية في تنفيذها. وشعار الكفاح المسلح يبطله حقيقة استمرار فتح الشرعية في انتهاج هذا الأسلوب ويبطله ضعف الانشقاقيين الواضح في ممارستهم لهذا الشعار منذ انشقاقهم وإلى اليوم، ويبطله رضوخ المنشقين كما في الفصائل الدمشقية القرار إلى الالتزام بتهدئة خطوط المواجهة المباشرة مع العدو !!